لفتح الإسلامي لمصر أصبحت مصر ولاية رومانية تابعة مباشرة للدولة الرومانية منذ عام 31 ق.م، حين استولى الرومان عليها وقضوا على حكم البطالسة فيها، واتخذها الإمبراطور أغسطس قيصر مخزنًا يُمِدّ روما بحاجتها من الغلال.
وقد اتصف الحكم الروماني بالتعسف، فظلَّت مصر تحت الحكم الروماني ما يزيد على أربعة قرون، وبعد انقسام الإمبراطورية الرومانية عام 395م، أضحت مصر تابعة لسيادة الإمبراطورية البيزنطية الشرقية؛ ولأن مصر كانت تحت الحكم المركزي البيزنطي، فإنها كانت تتأثر تأثرًا مباشرًا بما كان يحدث في البلاط البيزنطي من صراعات ومؤامرات، وكانت هزيمة الإمبراطورية البيزنطية من الفُرس في آسيا الوسطى والبلقان سببًا من الأسباب المباشرة لدخول الفرس مصر، وسقوط الإسكندرية عام 619م.
بدأت الفتوحات الإسلامية في عهد الصِّدِّيق رضي الله عنه، واستمرت في عهد الفاروق رضي الله عنه؛ فعندما فرغ المسلمون من فتوح الشام، وانتهى عمرو بن العاص من فتح فلسطين، طلب من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن يسير إلى مصر للفتح، وقد استطاع عمرو إقناع عمر بن الخطاب بفتح مصر، في لقاء الرجلين سنة ثماني عشرة من الهجرة بالجَابية، وكان عمر بن الخطاب حَرِيًّا بالاقتناع، حتى لا تكون أرض الشام معرّضة لخطر مهاجمتها من الروم شمالاً، وجنوبًا من مصر عن طريق سيناء البريّ، وغربًا من بحر الروم، وبخاصة أن (أرطبون) قائد الروم في فلسطين، قد هرب من فلسطين ولحق بمصر قُبيل فتح المسلمين لبيت المقدس، وقد اصطحب معه جيشًا من جيوش الروم، وكان يحشد جنود الروم في مصر لقتال المسلمين في حالة محاولتهم فتح مصر، أو يحاول استعادة فلسطين، إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، فرأى عمرو بن العاص أن على المسلمين ألاَّ يضيِّعوا الوقت سُدًى دون مسوِّغ، وأن يُوقِعوا بالأرطبون وقوات الروم قبل أن يستفحل أمرهم، وقد أيّده الفاروق عمر بن الخطاب، المعروف بتفكيره الحصيف المتميّز، ثم أمدَّه بالزبير بن العوام، ومعه بُسر بن أبي أرطاة، وخارجة بن حذافة، وعمير بن وهب الجمحي، فاتجه عمرو إلى حصن بابليون وضيَّق عليه الخناق بضعة أشهر، وعندما طال وقت القتال، أرسل المقوقس برسالة إلى عمرو يتهدده فيها ويتوعده؛ إذ الروم مؤيدون للمقوقس، وهم قوة معه على قوته في مواجهة عمرو ومَن معه، لكن عمرو بن العاص أرسل للمقوقس قائلاً: "ليس بيني وبينكم إلا إحدى ثلاث خصال، إمّا أن دخلتم في الإسلام فكنتم إخواننا، وكان لكم ما لنا، وإن أبيتم فأعطيتم الجزية عن يدٍ وأنتم صاغرون، وإما أن جاهدناكم بالصبر والقتال، حتى يحكم الله بيننا وهو أحكم الحاكمين"
ابن العاص يجسد سماحة الإسلام بعد أن تبين للمقوقس عجز البيزنطيين عن الوقوف ضد المسلمين، وافق على عقد الصلح بشرط موافقة الإمبراطور عليه، ومع رفض الإمبراطور البيزنطي للصلح مع المسلمين، وحثه المقوقس على محاربتهم، هاجم المسلمون الحصن بالمجانيق، واستطاع الزبير بن العوام t أن يدخل الحصن ببسالة فائقة منه، وتبعه المسلمون عام 20هـ/ 641م، فاضطر المقوقس إلى عقد معاهدة مع عمرو بن العاص ، وبمقتضى هذه المعاهدة دخل كثير من المصريين في دين الله، ومن بقي منهم على دينه كان يدفع الجزية التي أقرها الصلح.
كان من الممكن لعمرو أن يرفض الصلح؛ لأنَّ المسلمين قد دخلوا الحصن عَنْوة، ومن ثَمَّ فأرض مصر من حق المسلمين الفاتحين، ولكن المسلمين لم يكونوا يومًا ساعين إلى مغانم دنيوية، ولا إلى رغبة في التملك على حساب توصيل دعوة الإسلام إلى الناس برفق؛ لذا آثر المسلمون أن يعتبروا فتح مصر صلحًا، لتبقى من حق أهلها.
فرحة مصرية بالفاتح الإسلاميلم يكن الشعب المصري -في ذلك الوقت- محبًّا للرومان؛ لذا فإنَّ الحقائق التاريخية تؤكد ترحيب المصريين بالمسلمين، ومساعدتهم في أثناء فتحهم لمصر، كما تؤكد أيضًا رحمة المسلمين وعدلهم مع أهل مصر، وحماية حرياتهم وعقائدهم؛ فبنيامين بطريرك الكنيسة القبطية، قد فرَّ من الروم لبغضهم مذهبه، وبطشهم به وبسائر المسيحيين، وعندما سمع عمرو بن العاص بقصته كتب إليه أمانًا، فعاد بعد غيبة طويلة إلى كرسيه في الإسكندرية، وبالغ عمرو في الحفاوة به، والتسامح معه، ومنحه الحرية ليشرف على الكنائس، وفي ولاية عمرو بن العاص أعاد بنيامين بناء الكنائس التي خرَّبها الفرس أثناء احتلالهم لمصر.
أرسل عمرو بن العاص قوةً إلى الصعيد بإمرة عبد الله بن سعد بن أبي سرح بناءً على أوامر الخليفة ففتحها، وكان الوالي عليها، كما أرسل خارجة بن حُذافة إلى الفيوم ففتحها وصالح أهلها، وأرسل عمير بن وهب الجمحي إلى دمياط وتِنِّيس وما حولهما؛ فصالح أهل تلك الجهات، ثم سار عمرو بن العاص إلى الغرب، ففتح برقة وصالح أهلها، وأرسل عقبة بن نافع ففتح زويلة، واتجه نحو بلاد النوبة ففتحها.
مصر ولاية إسلاميةأصبحت مصر -بعد فتح عمرو بن العاص لها- ولاية إسلامية أصيلة، تابعة للدولة الإسلامية؛ فظلَّت تابعة للخلافة الراشدة ثم الدولة الأموية، ثم الدولة العباسية، حتى بدأت حركة استقلالية جديدة لم تشهدها الدولة الإسلامية من قبل، فاستقلت مصر تحت مسمى الدولة الطولونية، ثم الإخشيدية، ثم العبيدية (الفاطمية)، فالأيوبية، فدولة المماليك، ثم خضعت للخلافة العثمانية حتى استقلالها على يد محمد علي باشا في القرن التاسع عشر الميلادي.
وفي كل حقبة إسلامية من هذه الحقب شهدت مصر عهود قوة، وعهود ضعف، فكانت مصر في قمة المنحنى التاريخي والحضاري في عهد ولاة الخلفاء الراشدين: كعمرو بن العاص (19- 25هـ/ 640- 646م)، (39- 44هـ/ 659- 664م)، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح (25- 35هـ/ 646- 656م).
وفي عهد الدولة الأموية: عبد العزيز بن مروان بن الحكم (65- 86هـ/ 685- 705م)، وفي عهد العباسيين: أحمد بن طولون (254- 270هـ/ 868- 884م)، وفي عهد الإخشيديين: محمد بن طغج الإخشيد (323- 334هـ/ 935- 945م)، وكافور الإخشيدي (355- 357هـ/ 966- 968م).
وفي عهد الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي (569- 589هـ/ 1174- 1193م)، وفي دولة المماليك في عهد سيف الدين قطز (657- 658هـ/ 1259-1260م)، وركن الدين بيبرس (658- 676هـ/ 1260- 1277م)، والمنصور سيف الدين قلاوون (678- 689هـ/ 1279- 1290م)، والأشرف سيف الدين قايتباي (872- 901هـ/ 1468- 1496م)، وفي الدولة العثمانية في عهد مراد بن سليم (982- 1003هـ/ 1574- 1595م)، وإبراهيم الثاني (1050- 1058هـ/ 1640- 1648م).
فترات قوة الدولة الإسلامية بمصرشرع عمرو بن العاص في غرس بذور الحضارة الإسلامية في مصر وبسط جناح الإسلام في أرجائها، وكان أول عمل قام به تأسيس مدينة الفسطاط ليجعلها حاضرة البلاد ومقر الحكم. وقد قيل: إن عمرو بن العاص أراد بعد فتحه مدينة الإسكندرية أن يتخذها عاصمة له، كما كانت من قبل منذ الإسكندر الأكبر حتى نهاية العصر البيزنطي في مصر، وكتب إلى الخليفة عمر بن الخطاب يستأذنه في ذلك، ولكن الخليفة رفض، وكتب إلى عمرو قائلاً: "إني لا أحب أن تُنزِل المسلمين منزلاً يحول الماء بيني وبينهم في شتاء وصيف". وكان من الطبيعي أن يختار عمرو عاصمة مصر في نقطة برية سهلة الاتصال مع بلاد العرب، وفي موضع متوسط يمكن من خلاله أن يلاحظ قسمي البلاد المصرية شمالاً وجنوبًا؛ ليسهل عليه حكمها منه.
وكان موضع الفسطاط فضاء ومزارع بين النيل والمقطم، ولم يكن في هذا المكان من البناء سوى حصن بابليون الذي كانت تنزل به الحامية البيزنطية.
مؤسس الحضارة الإسلامية في مصروقد شيَّد عمرو بن العاص أول جامع بمصر سنة 21هـ في الفسطاط، والذي كان يمثل ظهور الإسلام في مصر وانضواءها تحت الحكم الإسلامي، وقد عرف هذا الجامع في عهد ازدهاره بتاج الجوامع، ثم عرف بعد أن تقادم به الزمن بالجامع العتيق، ويقع شمالي حصن بابليون، وقد أصبح هذا الجامع منارًا ساطعًا للعلم والثقافة، يحكي تاريخ مصر الإسلامية عبر العصور إلى اليوم.
وفي عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه (23- 35هـ/ 643- 655م)، بدأ المسلمون في تجهيز أسطول ليقضي على أي هجوم من ناحية البحر، ويقوم بالجهاد ضد أملاك البيزنطيين، وقد أُسنِد بناء هذا الأسطول إلى العناصر الخبيرة في البلاد المفتوحة في كل من مصر والشام، وبخاصة إلى القبط الذين أسهموا بنصيب وافر في بناء الأسطول الإسلامي، بحيث لم تأت سنة (33هـ/ 654م) حتى كان للمسلمين أسطول ضخم، استطاعوا به أن يحطموا السيادة البيزنطية في البحر المتوسط، ويستولوا على بعض جزره.
ذات الصواري.. أول نصر بحري للمسلمينوفي سنة 34هـ/ 655م، قدم أسطول لغزو الإسكندرية بقيادة الإمبراطور قنسطانز الثاني لاسترداد مصر من المسلمين، وكان والي مصر آنذاك هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح من قبل الخليفة عثمان بن عفان، فخرج عبد الله بن سعد على رأس الأسطول المصري لصد خطر البيزنطيين، وفي الوقت نفسه بعث معاوية بن أبي سفيان أسطوله بقيادة بسر بن أبي أرطاة للتعاون مع الأسطول المصري، وتقابل الأسطولان مع الأسطول البيزنطي بقيادة قنسطانز الثاني في فونكس على ساحل ليكيا جنوبي آسيا الصغرى في معركة عرفت باسم ذات الصواري لكثرة صواري السفن، وقد كان القتال عنيفًا بين الطرفين، وفي هذه المعركة حوَّل المسلمون القتال البحري إلى اشتباك وجهًا لوجه، إذ ربطوا السفن الإسلامية بالسفن البيزنطية، ثم اتخذوا من ظهر السفن المتلاحمة ميادين قتال أشبه بميادين البر، وبذلك حقق المسلمون أول انتصار بحري عظيم في الإسلام، وصفه المؤرخون بأنه اليرموك الثانية. وعلى أية حال، لم يستغل المسلمون هذا النصر ليندفعوا إلى القسطنطينية، وربما يرجع السبب في ذلك إلى مقتل الخليفة عثمان بن عفان الذي حدث في ذلك الوقت.
The Shield
:f:farao:
:fararao: